بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عنوان درسي (الكفر والتكفير)
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فتن آخر الزمان.
فنحن في آخر الزمان وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من فتن كقطع الظلام، وقال لنا: (بادروا بالأعمال فتنًا). أي اجتهدوا بالأعمال الصالحات قبل أن تأتي فتن تشغل الإنسان، وأخبرنا عن اضطراب أحوال الناس في آخر الزمان، وأن منهم من يغير دينه والعياذ بالله، ومنهم من يزيغ عن العقيدة الصحيحة، ويخرج من الإسلام إلى الكفر، وقال لنا: (يصبحُ الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).التغير يحدث في ليلة، في نهار! يكون في المساء مؤمنًا، فإذا هو في الصباح على الكفر! قد خرج من الإسلام، وهناك تغيرات تعتري الناس فيما هو أقل من الكفر، فيكون على سنة فيزلّ إلى البدعة، يكون على التمسك بحكم شرعي فيصبح يخالفه، وتضطرب الأحوال، وتتغير القناعات في لحظة، يتذبذب الناس
(يصبحُ الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).التغير يحدث في ليلة، في نهار! يكون في المساء مؤمنًا، فإذا هو في الصباح على الكفر! قد خرج من الإسلام، وهناك تغيرات تعتري الناس فيما هو أقل من الكفر، فيكون على سنة فيزلّ إلى البدعة، يكون على التمسك بحكم شرعي فيصبح يخالفه، وتضطرب الأحوال، وتتغير القناعات في لحظة، يتذبذب الناس
ونحن نحتاج اليوم أيما حاجة أيها الإخوة إلى الثبات والله عز وجل قال: وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران102. إذًا اثبتوا على هذا الدين، لا تنحرفوا عنه، لا تتركوه، لا كليًا، ولا جزئيًا، لا تتركوه إلى غيره؛ فترتدوا، ولا تتركوا حكمًا واحدًا من أحكامه، ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً سورة البقرة208. كافة، ومن أدعية
المؤمنين: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَاسورة آل عمران8.
أنواع الفتن وطرق إجتنابها.
والنبي عليه الصلاة السلام علمنا فقال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يا مصرف القلوب ثبت قلبي على دينك).
ولذلك كان يكثر أن يقول في هذه الأدعية: سائلًا الثبات من الله سبحانه وتعالى، ولما حدّث أصحابه عن فتنة الدجال، وأخبرهم بأشياء عجيبة من فتنة الدجال معه جنة، في الظاهر، ونار، ويطوف في الأرض سريعًا وأن معه من الخوارق العجيبة التي يرى بها الناس أنه يحي أمواتًا من القبور وأن كنوز الأرض تتبعه
ومع ذلك قال يا عباد الله: فاثبتوا سأصفه لكم وصفًا لم يصفه نبي قبلي، يا عباد: الله فاثبتوا! أوصانا بذلك مهما رأينا من الفتن، أن نثبت يا عباد الله: فاثبتوا
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في أدعيته (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر). والأمر هو الدين، والإسلام، والأحكام، ولماذا نحن نكرر في الصلاة اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَسورة الفاتحة6؟ ونداوم عليها؟ زدنا هدى، وثبتنا عليه،
ولو قال واحد: أنا مهتدي فلماذا أسأل مزيدًا؟
لماذا أسأل الهداية؟ نقول:
تسأل مزيدًا منها، والثبات عليها اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، والنبي عليه الصلاة والسلام لما تعرض لمساومات من المشركين؛ ثبت قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة عرض، الإنسان قد تأتيه عروض مغرية يا عباد الله: هذه الدنيا؛ فتن، عروض مالية مغرية، عروض في مناصب مغرية، في شركات، ومؤسسات، وأشياء فيها زيادة رواتب، لكن الأعمال فيها حرام! فيها شبهات كثيرة، ظلمات بعضها فوق بعض،
هل يثبت أمام الإغراء؟ ألا يتعرض الشباب للإغراء من الفتيات والعكس؟ أليس هذا عصر الشهوات؟ ألسنا اليوم في واقع بئيس من جهة العفة؟ هذه القنوات الإباحية التي تنشر صور الفواحش بأنواعها، وأنواع لا تخطر ببال حتى تسمع عنها فيقال لك:
لقد نشروا صور الفواحش حتى مع الكلاب، والبهائم ما ترك الكفار شيئًا من القاذورات إلا وضعوه، صوره، ثبتوه نشروه من جميع الأنواع ثم مواقع الانترنت، ورسائل البريد الإلكتروني وقريبًا نسمع أن الجوالات التي بأيدي أبنائنا، وبناتنا، الجوال الذي تعطيه لابنتك وابنك اليوم، هذا الجوال ستصل إليه مقاطع أفلام جنسية قذرة من لا يملك جوالًا؟ يملك الناس جوالات وشركات الجوالات العالمية المصنعة لها تريد أن تمحور الحياة حول الجوال فيجعلون البيع بالجوال، والشراء بالجوال، وتسديد الفواتير بالجوال، والحجز بالجوال، وهكذا الدنيا الأغراض تقضى بالجوال، محورة الحياة حول الجوال هذا الجوال سيكون مصدرًا عظيمًا للشر أيضًا، وليس البريد الإلكتروني فقط، وبالتالي سنرى الأبناء، والبنات، والصغار، والمساكين، والأبرياء والذين لم يعرفوا الشر من قبل، والفطر السليمة، وكل مولود يولد على الفطرة إذا به يرى قاذورات، وأشياء غير متوقعة تأتيه على الجوال، وهذه تقنيات البلوتوث اليوم تعبث بهم عبثا وتنقل إليهم الصور ماذا سيحدث من الذي يثبت أصلًا
أيها الأخوة: من الذي يثبت والأخوات من الذي يثبت عندما تُرى الصور، ومن الذي ينساق وراءها ليطبق هذه الانحرافات؟ المسألة اليوم فتن، فتن والله فتن في الشبهات، في الشهوات فتن كقطع الليل المظلم، ويل للعرب من شر قد اقترب، من الذي يثبت أمام الفتن؟ لو تعرض لإغراء صورة، أو دعوة من فاسق، أو فاسقة، من الذي سيثبت؟ هنا قضية الثبات، الثبات على المبدأ الثبات على الحق هذا حرام يعني حرام، ولا يتغير، ولا يتبدل،
العلم من قبل لو كان صحيحًا ليست مكتشفات القضية الحكم كلما كان أقدم في الشريعة كان أحسن فحكم الصحابة أحسن من حكم من بعدهم، وآراء التابعين الفقهية خير من آراء من بعدهم، وهكذا لأن الدين يتعرض للهجمات، ويخف التمسك به فتحصل التراجعات تحصل الانتكاسات، ولذلك غير بعض الناس من أشياء فإذا قلت لماذا غيرت
أنت الآن كنت تتبع أهل العلم ما الذي حصل؟
قال لأنني سمعت فتوى من شيخ ما في قناة ما يقول إن هذا جائز، سبحان الله، الذي يقول إنه ولسنا نقول اليوم حرام، وغدًا نقول ولكن ظهر هناك من يفتي بجوازه ظهر يعني شيء مستجد أين كان هذا قد وجد اليوم من يقول في قناة ما لا بدّ من نشر ثقافة العري لأن الحجاب قد كثر ولا بدّ أن نوازن الأمور وننشر عريًا في المقابل سبحان الله أين عقولهم كيف يقال هذا أيها الإخوة المبدأ مبدأ والحق حق، يجب الثبات عليه قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة؟ لا قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ سورة الكافرون6. مفاصلة وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ سورة القلم9
إن هذه الفتن التي يبتلينا الله بها في الدنيا متعددة، فمنها
فتنة المال،
ومنها فتنة الجاه،
ومنها فتنة الاضطهاد والطغيان،
ومنها فتنة الزوجة والأولاد،
يقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ سورة التوبة 75-77.
هذه فتنة المال الذي إذا جاء إلى الإنسان، فإنه إذا لم يثبته الله عز وجل زلت قدمه، وهوى في مراتع الفساد والمعاصي، وأشغله ماله عن ذكر الله تعالى، فلم يعد يجد وقتاً لعبادة الله عز وجل، وبذلك يكون المال وبالاً عليه، ونجد أيها المسلمون عدداً من الناس الذين تغيرت أحوالهم المادية، فتخرج من الجامعة فصار موظفاً بعد أن كان طالباً، أو اشتغل بتجارة فصار له مال بعد أن كان فقيراً أو متوسطاً، نجد حال هؤلاء قد تغير، وأنهم قد وقعوا في المعاصي، وصاروا يسهرون السهرات المحرمة، ويسافرون السفريات المحرمة، ويجلسون في مجالس السوء، وينشغلون بالمعاصي التي فتحت عليهم أبوابها بفعل أموالهم، وكذلك من الناس من يصبح له جاه بعد إذ لم يكن، فيكون الجاه عليه فتنة، يكون له فتنة، وعليه وبال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
لا يفسد دين المرء مثلما يفسده المال والجاه، كما أن زريبة الغنم لا يفسدها مثلما يفسدها ذئبان جائعان أطلقا فيها، فهكذا شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم المال والجاه، ولذلك فإن فتنة الجاه كانت للكفار عظيمة، فلما رأوا الضعفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون أبوا أن يجلسوا وتكبروا عن تلك المجالس، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم أصحابه ليجلس هؤلاء، فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فمن زينتها الجاه الذي إذا لم يستخدمه صاحبه في الخير أضر به ضرراً عظيماً
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا سورة الكهف 28.
ومن الفتنة كذلك الفتنة بالزوجة والولد،
يقول الله عز وجل: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْسورة التغابن 14.
فبعض الناس أركسته زوجته في المعاصي، كان مستقيماً قبل الزواج، فلم يهتم بالزواج من امرأة ذات دين، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أنا أرشدها وأهديها، وأنا أحسن من حالها، وأرفع من شأنها، ولكنها نكسته وجرته، هي التي أضعفته، وأشغلته بمتاع الحياة الدنيا الزائل، وكذلك الولد
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن أو الصحيح بطرقه: (الولد مجبنة مبخلة محزنة).
ومجهلة كذلك، فهو مجبنة لأنه يجبن أباه عن الجهاد في سبيل الله، ومحزنة بما يصيب الأب من الحزن إذا مرض الولد، وكذلك هو مبخلة يمنع الأب من التوسع في الإنفاق في سبيل الله، ومجهلة لأنه يشغل عن طلب العلم، فالدنيا فتن أيها المسلمون، الدنيا فتن، ولا بد أن يكون للمرء المسلم ثبات عند الفتن، لا بد أن يكون له مواقف ثابتة عند الفتن، إذا لم يواجه الفتن، بالبصيرة فإنه لا بد منزلق.
من أهم الوسائل التي تعين المسلم على الثبات القرآن الكريم.
إن( كتاب الله سبحانه وتعالى )
من أهم الوسائل بل هو أهمها لمواجهة الفتن، الفتن الكثيرة، ومنها فتنة الخوف، والظلم، والطغيان، وما عسى أن يتعرض له المتمسك بدينه، القائم على شريعة الله من ألوان العذاب، أو الاضطهاد، والتخويف، إن اجتماع الفتن من أنواع السراء والضراء يوجب التوجه إلى كتاب الله عز وجل الذي كان يثبت قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فينزل برداً وسلاماً على ذلك القلب المؤمن؛ ليزيده تماسكاً وثباتاً، ونحن أحوج والله إلى هذه المسألة أن نقبل على كتاب الله بالتلاوة، والحفظ، والتدبر، والتأمل، بعد قراءة التفسير لنعرف عوامل المواجهة التي تمكننا من الثبات عند هذه الفتن المتكاثرة.
إن (للعبادة)
ولا شك أثراً عظيماً في مواجهة الفتن، الفتن كثيرة في هذه الأيام، كثيرة جداً، فإذا لم يكن المسلم صاحب عبادة محافظاً على الفرائض قائماً بالنوافل (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
إن( الحاجة للدعاء)
عظيمة، فإنه قد لا يملك المسلم في المواجهة أكثر من سلاح الدعاء في بعض الأحيان، فإنه قد يحاصر حصاراً تاماً، ويكون عاجزاً عن الأخذ ببعض الأسباب الدنيوية، فلا حيلة له حينئذٍ إلا التوجه إلى الله بالدعاء رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَاسورة آل عمران 8.رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا سورة البقرة 250. (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). إن مثل هذه الأدعية لا بد أن تكون ديدناً للمسلم، وحصناً حصيناً يلجأ إليه، وهو مقاومة مهمة من أنواع المقامة، التي تعين على الثبات عند الفتن.
إن (اللجوء إلى سير عباد الله الصالحين،)
اللجوء إلى سيرهم إن كانوا أمواتاً، وإلى كلماتهم التي سطرت وأفعالهم التي دونت من أهم الأمور، فلننظر مثلاً أيها المسلمون في رجل آتاه الله مالاً وجاهاً، في رجل أعطاه الله من المال والجاه أمراً عظيماً، ولكنه كان يستخدم ماله وجاهه في طاعة الله، لقد ضرب مثلاً عظيماً، رغم أنه مجهول عند الكثير من المسلمين، ألا وهو يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى، الوزير، العالم، العادل، هذا الرجل الذي كان في القرن الخامس الهجري، كان أبوه جندياً، ولكنه كان يحثه على تحصيل العلم، وإدراك الفوائد، ويمضي به صغيراً إلى بغداد يحضر مجالس العلم، ولكن أباه مات، ولم يخلف له شيئاً، فمنعه فقره عن طلب العلم، ولكنه بعد أن حفظ القرآن الكريم لجأ إلى شيء من العمل والتكسب؛ لأجل سد حاجته وحاجة أهله، لقد دفعه الفقر إلى طلب الرزق، ومعلوم أن الوظيفة تشغل عن طلب العلم، فاشتغل بالكتابة، واشتهر أمره في أمانته، وحسن كتابته، وضبطه، وكتمانه للسر، فترقى شيئاً فشيئاً، حتى اتخذه الخليفة المكتفي مشرفاً على المخزن، ثم رقاه إلى أن صيره صاحب الديوان، ولما ظهرت كفاءته وأمانته أسند إليه الوزارة، فصار هو الوزير في البلد، أعظم شخصية بعد الخليفة، لكن هذا الرجل الصالح الذي كان سلفي المعتقد، على مذهب الإمام أحمد رحمه الله في الفقه، هذا الرجل لم تطغه وزارته، ولم تشغله الأموال التي كانت تأتيه، فإنه كان يجتهد في اتباع الصواب، ويحذر من الظلم، ويقرب الأخيار من الفقهاء، والمحدثين، والصالحين، وكانت أمواله مبذولة لطلب العلم، وفقراء البلد، وكان ناصراً للسنة، رفع الله السنة في عصره، وعهده، وبجهده رفعاً عظيماً، وكان يقول: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه منها العلم وأهله، وكان صادقاً في ذلك ليس كبعض الناس الذين يقولون: نتاجر ونطلب الأموال للصدقة، ونحو ذلك من مشاريع الخير فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ سورة التوبة 76.
ولذلك كانت السنة تدور وعليه ديون، وكان يقول: ما وجبت عليّ زكاة قط؛ لأن السنة لم تكن تدور وعنده شيء من المال يخرج زكاته، هذا الرجل الذي وصفه العلماء في عصره وبعده رحمهم الله: بأنه كان شديداً في اتباع السنة، وسيَر السلف، وكان يتحدث بنعم الله عليه، ويذكر وهو في منصبه، في منصب الوزارة أمام الناس يذكر شدة فقره القديم، وكان إذا استفاد شيئاً من العلم أو فائدة فذكرها في مجلس قال: أفادنيه فلان، فينسب الفضل لصاحبه، ويذكر معلمه، مع أنه وزير، وكان عفيفاً محموداً، كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة، والصيام، ويكثر مجالسة أهل العلم، وكان يحضر مجلسه الفضلاء، والعلماء، وأعيان الفقهاء، والصالحين -رحمه الله تعالى- وألف مصنفات عظيمة، ومن أعظمها الإفصاح عن معاني الصحاح في تسعة عشر كتاباً، شرح فيه البخاري ومسلم من خلال مسند الحميدي رحمه الله تعالى، وعندما وصل إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). شرح الفقه وعرفه وانطلق من خلاله للكتابة في مسائل الفقه، واختلاف أهل العلم فيها، فهذه التي أخذت فطبعت في مجلدين من ذلك الكتاب العظيم، الذي لا زالت مخطوطاته متفرقة في الدنيا، هذا الرجل الذي طاولته أيدي الحاقدين، ووصلت أحقادهم إلى تحريض الطبيب الذي يعالجه فدس له السم في الدواء، وقال ابن الجوزي رحمه الله: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على ما دخل فيه من شؤون الوزارة، ثم صار يسأل الله عز وجل الشهادة، ويتعرض بأسبابها، وكان صحيحاً يوم السبت الثاني عشر من جماد الأولى، سنة ستين وخمسمائة، فنام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السحر تقيأ، فأحضروا الطبيب الذي كان يخدمه فسقاه شيئاً، يقال: إنه سمه فمات، ثم سُم الطبيب بعده بستة أشهر، فكان الطبيب يقول وهو يصارع الموت: سُقيت كما سَقيت ومات الطبيب.
.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، اللهم إنا نسألك الشوق إلى لقائك، والنظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
على المسلم أن يقابل الخوف من الفتن بالتوكل على الله.
: إن هذه الفتن التي نعيشها وهذا الخوف الذي يروجه الأعداء، وهذا الإرجاف الذي يشيعه المنافقون، ينبغي أن يقابل من العبد المسلم، ينبغي أن يقابل بتوكل على الله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ سورة الطلاق 3. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَسورة الأنفال 64. فهو حسبك، وحسب المؤمنين، فهو كافيك، وكافي المؤمنين، فهو مثبتك، ومثبت المؤمنين، هو الذي يثبت جنانك، ويثبت أجنة المؤمنين.
عباد الله:
لا بد من عدم الاغترار بالباطل، وعدم الانصياع لتخويفه، يقول الله عز وجل: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ سورة آل عمران 196-197. وقال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ سورة الرعد 17.
لا يحق إلا الحق، ولا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى إلا ما يريد الله تعالى مما ينفع الناس، فإن الباطل وإن كانت له نفشة ورغوة فإنه عما قليل زائل، ولذلك كان من الواجب على عباد الله المؤمنين أن يتمعنوا في سير وما قصه الله علينا من سير المكذبين (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )سورة الأنعام 55.
ولا بد أن يتحلى المسلم بما يعينه على المواجهة في الفتنة من الأخلاق المعينة على ذلك، وأهمها الصبر بجميع أنواعه: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة.
أيها المسلمون:
إن مغريات الحياة الدنيا كثيرة، إن هذه الأشياء من الكماليات وغيرها، وهذه البهارج، وهذه الزينات مما ترونه في الأسواق، ومما ترونه في المباني، ومما ترونه في السلع، ومما ترونه في الأغذية، إن هذه البهارج كثيرة، إنها خلابة، إنها تأخذ بالألباب، وهذه الفتن وعلى رأسها فتنة النساء، وفتنة المال، من أشد ما يفتن المسلم في هذا الزمان، من أشد ما يفتن فتنة النساء، وفتنة المال، فيا عبد الله: ما عليك إذا ثبت في هذه الحياة، فتلقى الله سليماً فتدخل الجنة، أليس ذلك خير من أن تنغمس في هذه الأوحال فتموت على معصية فتلقى الله وهو غاضب عليك، فتنال غضبه، وتدخل في عذابه، وأي العذابين أشد وأبقى؟ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاثبت رحمك الله تعالى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من الذين يثبتون في السراء والضراء، آتنا سؤلنا، واغفر ذنبنا، واقض ديننا، واستر عيبنا، وارحم ضعفنا، اللهم إنا نسألك الثبات عند البلاء، والنصر على الأعداء، وعيش السعداء، وميتة الشهداء، وحياة الأتقياء، اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين في كل مكان، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الدين، اللهم عليك باليهود والنصارى ومن تبعهم، اللهم اجعل بأسك ورجزك وعذابك عليهم إله الحق، اللهم وخلص المسجد الأقصى وبيت المقدس من براثن اليهود، اللهم إنا نسألك أن تجعل فرجنا وفرج المسلمين قريبا يا رب العالمين.
.
أيها المسلمون: لقد منَّ الله على عباده بدينٍ متينٍ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ، ويُؤصِّلُ القواعدَ والأحكام، شاملٌ للكليات والجزئيات، والاعتقادات والعبادات، والسلوك والآداب، وقرَّر أصول التعامل مع البسطاء والعُظماء، وأهل البطالة والأثرياء، والفقراء والأغنياء، قال -جل شأنُه-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].
ولكماله شَرَقَ الأعداءُ بتمسُّك أهل الإسلام به، قال سبحانه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة: 109]، فيسعون إلى إقصاء أهله عنه: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
ومن أعظم مداخل أهل الباطل على المسلمين: زعزعةُ الأمن في بلدانهم، فإذا فقدوه انقطَعَت السُّبُل، وتفرَّقَت الكلمةُ، وحلَّ الفقر، وانتشرت الأسقام، وسُلِبَت الأموال والممتلكات، وهُتِكَت الأعراضُ وسُفِكَت الدماء، فيعمُّ الجهلُ والخوفُ، وينشغِلُ الناسُ عن دينهم، ويظهر أهل الريبِ والشك وأربابُ البغيِ والإفساد.
وكلما ابتعد الناسُ عن زمنِ النبوة ظهرت الفتنُ والمِحَن، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن بين أيديكم فتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا". رواه أحمد.
والثباتُ في المُدلهِمَّات الحوادث والأزمان عزيز، ولا تظهر فتنةٌ إلا ويسقطُ فيها رجال، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) [الحج: 11].
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمتَه بالتعوُّذ من الفتن قبل ظهورها وعند نزولها، فقال: "تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بَطَن". رواه مسلم.
ومن دوائها: عدمُ الخوض فيها وتركُ الأمر لأهله من الولاة والعلماء لعرضِها على الكتاب والسنة، قال -جل شأنه-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
والفتنةُ إذا أقبلَت عرفَها العلماءُ، فإذا أدبَرَت عرفَها العامةُ ولكن بعد الفوات، والعلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، ولا غِنَى للحاكم والمحكوم عنهم في السرَّاء والضرَّاء، والشدة والرخاء، فالله أمر بسؤالهم في جميع الأحوال، فقال سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
وهم -بأمر الله- أمانٌ للمجتمع من الفوضى والتطاوُل على الحاكم، وهم الناصِحون لوليِّ الأمر المُذكِّرون له بما يُرضِي الله، قال سهلُ بن عبد الله: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذيْن أصلحَ الله دنياهم وأخراهم".
ومن أُسس هذا الدين: النصيحةُ لكل فردٍ وإن علا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الدينُ النصيحة"، قلنا: لمن؟! قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". رواه مسلم.
وقد سلك السلفُ الصالحُ السبيلَ الأقومَ في النُّصح للحاكم على ما جاء به الكتابُ والسنة من غير تشهيرٍ به ولا تنقُّص، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "مخاطبةُ الرؤساء بالقول الليِّن أمرٌ مطلوبٌ شرعًا وعقلاً وعُرفًا، ولذلك تجِد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل".
وإذا اجتمعت القلوب على الحق والنُّصح قوِيَت في العبادة، وحسُنَت بينهم المُعاملة، وحفِظَ الله المجتمعَ من الشرور، وكانت يدُ الله معهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "يدُ الله مع الجماعة". رواه الترمذي.
ومن أوائل أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدِم المدينة: مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وتوحيد صفِّه لتقوَى شوكةُ المسلمين ويعيش الجميعُ في أمنٍ واستقرار.
ومن تعظيم الإسلام للجماعة: أنه أمر بقتل من أراد تفريقها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنه ستكون هنَّاتٌ وهنَّاتٌ -أي: فتن ومِحَن-؛ فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان". رواه مسلم.
ولا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعة، قال الإمام أحمد: "إذا لم يكن إمامٌ يقوم بأمر الناس فهي الفتنة".
وقد أدرك الصحابةُ -رضي الله عنهم- ذلك، فلما تُوفِّي النبي -صلى الله عليه وسلم- سجَّاه الصحابة -أي: غطَّوه-، ثم ذهبوا إلى سقيفة بني ساعِدة لاختيار خليفةٍ له، ولما بايَعُوا أبا بكرٍ -رضي الله عنه- عادُوا إلى تجهيز النبي -صلى الله عليه وسلم- من غَسْله وتكفينه ودفنِه، فقدَّموا اختيار الخليفة على دفنه -صلى الله عليه وسلم-؛ لعلمهم للحاجة أن المجتمع لا يصلُح -ولو ساعةً- بلا والي.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لا بدَّ للناس من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة"، قيل له: هذه البَرَّة قد عرفناها، فما بالُ الفاجرة؟! قال: "يُؤمَّنُ بها السبيلُ، ويُقامُ بها الحُدود، ويُجاهَدُ بها العدو، ويُقسَمُ بها الفَيْءُ".
ومِنْ مُعتقَد أهل السنة والجماعة: طاعةُ وليِّ الأمر بالمعروف وإن كان ظالمًا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَك وأخذ مالَكَ، فاسمَع وأطِع". رواه مسلم.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "ونرى طاعتَهم من طاعة الله -عز وجل- فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمُعافاة".
ومن رأى من واليه تقصيرًا أو ظلمًا فهو مأمورٌ بالصبر على بغيِه منهيٌّ عن معصيته والخروج عليه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كرِهَ من أميره شيئًا فليصبِر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرجَ من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية". أي: كأنه لم يُدرِك الإسلام. رواه مسلم.
وعلى هذا النهج العظيم سار سلفُ هذه الأمة، فكان كِبارُ الصحابة وكِبارُ التابعين؛ كابن عمر، وابن سيرين، وابن المُسيَّب يُصلُّون خلف الحَجَّاج مع عظيم ظلمه، وكثرة قتله وبطشِه، ويدعون له، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الحَجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم،ولكن عليكم بالاستكانه والتضرع